قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف. قد ضربت لي مثل إخوان الصفا المتعاونين المتحابين، فاضرب لي، إن رأيت، مثل العدو الذي ينبغي أن لا يغترّ به وإن أظهر حسن الصفح تضرّعاً وملقاً في العلانية.
قال الفيلسوف: من اغترّ بالعدو الأريب المعروف بالعداوة أصابه من ذلك ما أصاب الغربان.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: إنه كان بأرض في جبل من الجبال شجرة عظيمة كأعظم ما تكون من الدوح، ذات أغصان ملتفّة. وكان فيها وكرٌ لألف غراب عليهم ملك منهم. وكان في ذلك الجبل أيضاً مكان فيه ألف بومة عليهن أيضاً ملك منهن. فخرج الملك البوم ليلة لبعض أموره وفي نفسه عداوة لم تزل بين البوم والغربان. فأغار على الغربان بمن معه من البوم فقتل منهم كثيراً وجرح منهم كثيراً. فلما أصبح ملك الغربان جمع ذويه فقال لهم: قد رأيتم ما لقينا من البوم وكم أصبح فيكم من قتيل وجريح ومنتوف الرأس والجناح والذنب. وأشد من ذلك كله في نفس ضراوتهن ثم علمهن بمكانكم وجرأتهن عليكم مثل الذي ذقتم وهنّ غير غافلات عنكم فانظروا في أمركم في مهل.
وكان فيهم خمسة غربان معترف لهم بفضيلة الرأي، كان الغربان يسندون إليهم أمورهم ويفزعون إليهم فيما نزل بهم، وكان الملك يشاورهم في أموره ويأخذ برأيهم. فقال الملك لأحدهم: ما رأيك في هذا الأمر؟
قال الغراب: هذا رأي سبقتنا إليه العلماء فقالوا: ليس لعدوّ الحنق الذي لا يطاق له حيلة إلا الهرب منه.
قال الملك للثاني: ما رأيك أنت في هذا الأمر؟ قال: أما ما أشار به هذا من الفرار فلا أراه م الصواب. فكيف نجلو عن بلادنا وعن أوطاننا ونذلّ لعدوّنا عند أول نكبة أصابتنا، ولكنا نجمع أمرنا ونستعدّ لمجاهدة عدونا ونذكي العيون فيما بيننا وبينه ونحترس من العودة والغرّة، فإن أقبل إلينا عدونا لقيناهم مستعدين لقتالهم فقاتلناهم مزاحفة حتى تلقى أطرافنا أطرافهم، ونتحرز منهم تحرّزاً حصيناً وندافع عدونا بالأناة مرة وبالجهاد أخرى حتى نصيب فرصتنا أو يعيينا ذلك فنهرب وقد مهّدنا لنا عذراً.
قال الملك للثالث: وأنت ما رأيك؟ قال: ما أرى ما قال، ولكني أريد أن تذكى العيون والطرائع بيننا وبين عدونا فنتجسس ونعلم هل يريد عدونا صلحاً أو يقبل منا ديةً. فإن رأينا من ذلك أمراً موافقاً لم أكره أن نصالحهم على خراج نؤديه إليهم، فندع عن أنفسنا بأسهم ونطمئن في وطننا. فإنّ من الرأي للمولك إذا اشتدت شوكة عدوهم وخافوا على أنفسهم الهلكة والفساد على بلادهم والدمار على رعيتهم أن يجعلوا الأموال جنةً للملوك والبلاد والرعية.
قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال: لا أراه رأياً بل ترك أوطاننا والاصطبار على الغربة وشدة المعيشة خير من وضع أحسابنا والخضوع للعدو الذي نحن أشرف منه وأكرم. مع أني قد عرفت أن لو قد عرضنا ذلك عليهم لم يرضوا فيه إلا بالشطط. وقد كان يقال: قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك، ولا تقارب كل المقاربة فيجترئ عليك عدوّك ويضعف جندك ويذلّ نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلاً زاد ظلها وإن جاوزت الحد في إمالتها نقص الظل. وليس عدونا براض منا بالدون من المقاربة. فالرأي لنا المحاربة والصبر.
قال للخامس: ما ترى، ألقتال أو الصلح أو الجلاء؟ فقال: أما القتال فلا سبيل إلا قتال من ليس المرء بقرن له لأن من يعرف نفسه وعدوّه فقاتل من ليس هو قرناً له فنفسه أجهد مع أن العاقل لا يستضعف عدواً. ومن فعل ذلك اغتر، ومن اغتر لم يسلم وإنا للبو شديدو الهيبة، ولو أضربت عن قتالنا وكنت أهابها قبل إيقاعها بنا. فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال. فإن كان بعيداً لم يأمن معاودته، وإن كان قريباً لم يأمن مواثبته، وإن كان كثيفاً لم يأمن استطراده وكربه، وإن كان وحيداً لم يأمن مكره. وأكيس الأقوام من لم يلتمس الأمر بالقتال إذا وجد غير القتال سبيلاً. فإن النفقة في القتال إنما هي من الأنفس. وسائر الأشياء إنما النفقة فيها من المال. فلا يكونن قتال البوم من رأيك. فإن من يرى القتل لا يرى كل الخير.
قال الملك: إذا كرهت القتال ماذا ترى؟ قال: تؤامر وتشاور. فإن الملك المؤامر المشاور يصيب في مؤامرته نصحاً من ذوي العقول فيظفر بما لا يصيبه بالجنود والزحف وكثرة العدد. والملك الحازم يزداد في المؤامرة والتشاور ورأي الوزراء والحزمة، كما يزداد البحر بالسواعد من الأنهار. ولا يخفى على الحازم قدر أمره وأمر عدوّه وفرصة قتاله ومواضع رأيه ومكايدته، ولا ينفك يعرض الأمور على نفسه أمراً أمراً يتروّى في التقدم على ما يريد منه الأعوان الذين يستعين بهم عليها والعدة التي يعدها لهم. فمنلم يكن له رأي كذلك ولا نصيحة من الوزراء العقلاء الذي يقبل منهم، لا يلبث، وإن ساقت إليه الأحوال حظاً، أن يضيع أمره. فإن الفضل المقسوم لم يقيّض للجهّال ولا للحسب، ولكنه وكّل بالعاقل المستمع من ذوي العقلاء.
وأنت أيها الملك كذلك وقد استشتني في أمور أريد أن أجيبك في بعضها سراً وفي بعضها علانية. فأما ما لا أكره أن أعلنه فكما أني لا أرى القتال كذلك لا أرى الخضوع بالخراج والرضا بدل القهر. فإن العاقل الكريم يختار الموت صابراً محافظاً على الحياة عرياناً ذليلاً. وأرى ألا يؤخر النظر في أمرنا ولا يكونن من شأنك التثبط والتهاون، فإن التثبط والتهاون رأس المعجزة. فأما ما أريد إسراره فليكن سراً. فإنه قد كان يقال “إنما يصيب الملوك الظفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار أو الرسل المستمعين للكلام أو من قبل الناظرين في أثر الرأي أو مواقع العمل أو من التشبيه والتطنّز. ومن حصّن سره فله من تحصينه إياه أمران: إما ظفر بما يريد وإما أن يسلم من ضره وعيبه إن أخطأ”.
ولا بد لصاحب السر من مستشار مأمون يفضي إليه بسره ويعاونه على الرأي. فإن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً فإنه يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالودك ضوءاً. وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى والرفق في تبصيره خطأ إن أتى به وتقليب الرأي فيما يشكل حتى يتفق شأنهما. فإذا لم يكن المستشار كذلك فهو على المستشير مع عدوه، كالرجل الذي يرقي الشيطان ليرسله على الإنسان، فإذا لم يحكم الرقية أضحى هو أسيراً للشيطان. وإذا كان الملك محصّناً للأسرار متحيّزاً للوزراء مهيباً في أنفس العامة بعيداً من أن يعلم ما في نفسه لا يضيع عنده حسن بلا مثلى. وإن كان ذا حزم مقتدراً لم يقتّر فيما ينفق ولم يسرف، كان خليقاً أن لا يسلب صالح ما أوتي. وللأشرار منازل. فمن الشر ما يدخل في الرهط، ومنه ما يدخل فيه الرجلان، ومنه ما يستعان فيه بالقوم. ولا أرى لهذا السرّ في قدر منزلته ألا يشترك فيه أربع آذان ولسانان.
فنهض الملك وخلا به واستشاره فكان فيما سأل عنه أن قال: هل تعلم ما كان بدء عداوة ما بيننا وبين البوم، قال: نعم، كلمة تكلّم بها غراب.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
أصل العداوة بين الغراب والبوم
قال الغراب: زعموا أن جماعة من الطير لم يكن لها ملك وأنها اجتمعت على بوميّ لتملّكه. فبينما في مجمعها إذ رفع لها غراب فقال بعضهن: انتظرن هذا الغراب فنستشيره في أمرنا. فأتاهن الغراب فاستشرنه، فقال الغراب: لو أن الطير بادت وفقد الطاووس والكركيّ والبط والحمام لما اضطررتن إلى تمليك البوم، أقبح الطير منظراً، وأسوئها مخبراً، وأقلها عقولاً، وأشدها غضباً، وأبعدها رحمة، مع ما بها من الزمانة والعشاء بالنهار. ومن شر أمورها سفهها وسوء خلقها إلا أن تملكنها وأنتن المدبرات للأمور دونها برأيكن وعقولكن. فإذا كان الملك جاهلا ووزراؤه صالحين نفذ أمره وتم رأيه واستقام علمه ودامت مملكته كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها وعملت برأيه كأنها مرسلة منه.
قالت الطير: وكيف كان ذلك؟
مثل ملك الفيلة ورسول الأرانب
قال الغراب: زعموا أن أرضاً من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون فأجدبت وقلّ ماؤها وغارت عيونها فأصابت الفيلة عطش شديد فشكوا ذلك إلى ملكهم. فأرسل ملك الفيلة رسله وروّاده في التماس الماء في كل ناحية. فرجع إليه بعض رسله فأخبروه أنهم وجدوا بمكان كذا وكذا عيناً تدعى القمرية كثيرة الماء. فتوجّه ملك الفيلة بفيلته إلى تلك العين ليشربوا منها وكانت الأرض أرض أرانب، فوطئت الفيلة الأرانب في أجحارها ومجاثمها، فاجتمعت الأرانب إلى ملكهن فقلن: قد علمت ما أصابنا من الفيلة فاحتل لنا قبل رجوعهم، فإنهم إذا رجعوا لوردهم أهلكونا.
قال الملك: ليحضرنّ كل ذي رأي منكن رأيه. فتقدم خزرٌ منها يدعى فيروز كان الملك قد عرفه بالأدب والرأي، فقال: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويبعث معي أميناً يرى ويسمع ما أقول وأصنع ليخبر به الملك فليفعل.
قال ملك الأرانب: أنت أميني ونحن نرضى بك وبرأيك ونصدّق قولك فانطلق إلى الفيلة وبلّغ عني ما أحببت واعمل برأيك، واعلم أن الرسول به وبرأيه يعتبر عقل المرسل وكثير من شأنه. وعليك باللين والمؤاتاة فإن الرسول هو الذي يلين القلب إذا رفق ويخشّن الصدر إذا خرق.
فانطلق الخرز في ليلة فيها القمر طالع حتى انتهى إلى الفيلة، وكره أن يدنو منهن فيطأنه وإن هنّ لم يردن ذلك. فأشرف على تلّ فنادى: يا ملك الفيلة إنه أرسلني إليك القمر والرسول مبلّغ غير ملوم وإن أغلظ.
قال ملك الفيلة: وما الرسالة؟
قال فيروز: يقول القمر إنه من عرف فضل قوته على الضعفاء فاغترّ لذلك بالأقوياء كانت قوته خبالاً له. وقد عرفت فضل قوتك على الدواب فغرّك ذلك مني فعمدت إلى عيني التي تسمى باسمي فشربت ماءها وقذّرتها وكدّرتها بفيلتك. وإني أتقدم إليك وأنذرك أن تعود فأغشي بصرك واتلف نفسك. وإن كنت في شك من رسالتي فهلمّ إلى العين من ساعتك فإني موافيك فيها.
فعجب ملك الفيلة في قول فيروز، فانطلق إلى العين معه فنظر إليها فرأى ضوء القمر فقال له فيروز: هذ بخرطومك من الماء فاغسل وجهك واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء فتحرّك، فخيّل إليه أن القمر ارتعد فقال: ما شأن القمر ارتعد؟ أتراه غضب عليّ لإدخالي خرطومي في الماء؟ فقال فيروز: نعم فاسجد له ثانية. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى وتاب إليه مما صنع به، وشرط له ألا يعود إلى تلك العين هو ولا شيء من فيلته.
قال الغراب: ومع ما ذكرت من أمر البوم أن من شأنها الخبّ والمكر والخديعة. وشرّ الملوك المخادع ومن ابتلي بسلطان المخادعين وحكّمهم أصابه ما أصاب الصفرد والأرنب اللذين حكّما السنور الصوام؟
مثل الصّفرد والأرنب والسّنّور الصّوّام
قال الغراب: كان لي جار من الصفارد في سفح جبل، وجحره قريب من الشجرة التي فيها وكري، فكان يكثر التقاؤنا ومواصلتنا على جوارنا. ثم فقدته فلم أدر أين غاب، وطالت غيبته حتى ظننت أنه قد هلك. فجاءت أرنب إلى مكان الصفرد ولبثت في ذلك المكان زماناً. ثم إن الصفرد رجع إلى مكانه، فلما وجد الأرنب فيه قال: هذا مكان فانطلقي عنه.
قالت الأرنب: المسكن في يدي، وأنت المدّعي، فإن كان لك حق فاستعد عليّ.
قال الصفرد: المكان مكاني، ولي على ذلك البيّنة.
قالت الأرنب: نحتج إلى القاضي.
قال الصفرد: إن قريباً منا على شاطئ البحر سنّوراً متعبداً يصلي النهار كله لا يؤذي دابة ولا يريق دماً، ويصوم الدهر لا يفطر، عيشه من العشب وورق الأشجار، فاذهبي الليلة إليه أحاكمك.
قالت الأرنب: نعم. فانطلقا جميعاً وتبعتهما لأنظر إلى الصوام العابد الزاهد وإلى قضائه بينهما، فلما صارا إلى السنوا قصّا عليه قصتهما.
فقال السنور: أدركني الكبر وضعف البصر، وثقلت أذناي فما أكاد أن أسمع فادنوا مني فأسمعاني قريباً. فأعادا القصة فقال: “قد فهمت ما قصصتما وأنا بادئكما بالنصيحة قبل القضية، فآمركما ألاّ تطلبا إلا الحق. فإن طالب الحق هو الذي يفلح وإن قضي عليه، وطالب الباطل مخصوم. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شيء من مال ولا صديق إلا عمل صالح قدّمه. فذو العقل حقيق ويمقت ما سوى ذلك. ومنزلة المال عند العاقل منزلة المدر. ومنزلة الناس عنده فيما يحب لهم من الخير ويكره لهم من الشر منزلة نفسه”. فلم يزل يقص عليهما ويستأنسان فيدنوان منه حتى وثب عليهما فضمّهما إليه فقتلهما جميعاً.
قال الغراب: فالبوم يجمعن مع سائر ما وصفت لكم المكر والخديعة فلا يكوننّ تمليك البوم من رأيكن. فلما سمع الطير خطبة الغراب أضربن عن رأيهن ولم يملّكن البوم.
وكان هناك بومة حاضرة سمعت كلام الغراب فقالت له: لقد وترتني أعظم التّرة، فما أدري هل كان سلف مني إليك سوءٌ استحققت به هذا منك؟ وإلاّ فاعلم أن الفؤوس يقطع بها الشجر فتنبت وتعود، والسيف يقطع به اللحم والعظم فيندمل ويلتئم، واللسان لا يندمل جرحه، والنصل من النشابة يغيب في الجوف ثم ينزع، وأشباه الأنصال من القول إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولك حريق مطفئ، فللنر الماء، وللسم الدواء، وللعشق القرب، وللحزن الصبر، ونار الحق لا تخبو. وإنكم معاشر الغربان قد غرستم بيننا أبداً شجرة الحقد والبغضاء.
فقضت البوم مقالتها هذه وولت مغضبة وانصرفت موتورة، وندم الغراب على ما فرط منه، وقال في نفسه: “لقد خرقت فيما كان من قولي الذي جلبت به العداوة على نفسي وعلى قومي، ولم أكن أحقّ الطير بهذه المقالة ولا أعبأها بأمر ملكها. ولعلّ كثيراً قد رأوى الذي قد رأيت وعلموا الذي قد علمت فمنعهم من الكلام فيه اتقاء ما لم أتق والنظر فيما لم أنظر فيه من العاقبة. ثم لا سيما إذا كان الكلام مواجهة، فإن الكلام الذي يستقبل فيها قائله السامع بما يكره مما يورث الحقد والضغينة ولا ينبغي له أن يسمى كلاماً ولكن يسمّى سمّاً. فإن العاقل وإن كان واثقاً بقوله وفضله لا يحمله ذلك على أن يجني على نفسه عداوة وبغضاً اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة. كما أن العاقل لا يشرب السم اتكالاً على ما عنده من الترياق، وصاحب حسن العمل وإن قصّر به القول في بديهته تبين فضله عند الخبرة وعاقبة الأمر. وصاحب القو وإن هو أعجب ببديهته وحسن صفته فلا يحمد مغبّة أمره. وأنا صاحب القول الذي لا عاقبة له محمودة. أوليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم لا أستشيره فيه أحداً ولا أتروّى فيه مراراً، وأنا أعلم أن من لم يستشر الفصحاء الألبّاء بتكرار النظر والروية لم يسرّ بمواضع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت في يومي هذا وما وقعت فيه”.
فعاتب الغراب نفسه بهذا ثم انطلق.
فهذا ما سألتني عنه من العلة التي بدأت بها العداوة بين البوم والغربان.
قال الملك: قد فهمت هذا، فحدّثنا بما نحن أحوج إليه وأشر علينا برأيك والذي ترى أن نعمل به فيما بيننا وبين البوم.
قال: أما القتال فقد فرغت من رأيي فيه وأعلمتك كراهتي له. ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال، وأنا أرجو أن أقدر من الحيل على بعض ما في فرج. فإنه رُبّ قوم قد احتالوا بآرائهم للأمر الجسيم حتى ظفروا منه بحاجتهم التي لم يكونوا يقدرون عليها بالمكثرة، كالنفر الذين مكروا بالنساك حتى ذهبوا بعريضه.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
مثل الناسك والعريض واللصوص
قال: زعموا أن ناسكاً اشترى عريضاً ضخماً سميناً ليجلعه قرباناً، فانطلق به يقوده فبصر به نفر مكرة فائتمروا ليخدعنوه، فعرض له أحدهم فقال: أيها الناسك ما هذا الكلب الذي معك؟ ثم عرض له آخر فقال: أيها الناسك أظنك تريد الصيد بهذا الكلب. ثم عرض له ثالث فقال: إن هذا الرجل الذي عليه لباس الناسك ليس بناسك. فإن الناسك لا يقود كلباً. فقال الناسك: لعل الذي باعني سحر عينيّ. فخلّى العريض وتركه فأخذه النفر واقتسموه بينهم.
وإنما ضربت لك هذا المثل لما رجوت أن نصيب من حاجتنا بالمكر. فأنا أرى أن يغضب الملك عليّ فيأمر بي على رؤوس جنده فأضرب وأنقر حتى أتخضّب بالدماء، ثم ينتف ريشي وذنبي ثم أطرح في اصل الشجرة التي نحن عليها، ويرتحل الملك وجنوده إلى مكان كذا وكذا، حتى أمكر مكري وأحتال على البومة بحيلة يكون فيها هلاكهن. ثم آتي الأمر على علم وأطلعك على أحوالهن فننال غرضنا منهن إن شاء الله.
ففعل ذلك وارتحل مع غربانه إلى المكان الذي وُصف له. ثم إن البوم جاءت من ليلتها فلم تجد الغربان ولم تفطن للغراب في أصل الشجرة. فأشفق أن ينصرفن من قبل أن يروه فيكون تعذيبه نفسه باطلاً، فجعل يئنّ ويهمس حتى سمعته بعض البوم. فلما رأينه أخبرن به ملكهن فعمد نحوه في بومات ليسأله عن الغربان. فلما دنا منه أمر بومة أن تسأله من هو وأين الغربان؟
قال الغراب: أنا فلان ابن فلان، وأما ما سألتني عنه في أمر الغربان فلا أحسبكن ترينني في حال من لا يعلم الأسرار.
قال ملك البوم: هذا وزير ملك الغربان، وصاحب رأيه، فاسألوه بأي ذنب صنع به ما صنع؟
قال الغربان: سفّهوا رأيي وصنعوا فيّ هذا.
قال الملك: وما هذا السفه؟
قال الغراب: إنه لما كان من إيقاعكنّ بنا ما كان، استشارنا ملكنا فقال: أيها الغربان ما ترون؟ وكنت من الأمر بمكان فقلت: “أرى أنه لا طاقة لكم لقتال البوم فإنهن أشد بطشاً منكم وأجرأ قلوباً، ولكن الرأي لكم أمران: نلتمس الصلح ونعرض الفدية. فإن قبلن ذلك منكم وإلا هربتم في البلاد. وأخبرت الغربان أن قتالهم إياكن خير لكن وشرّ لهم، وأن الصلح أفضل ما هم مصيبون منكنّ وأمرتهم بالخضوع. وضربت لهم مثلاً في ذلك فقلت: إن العدو الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له. ألا ترون الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه حيث مالت. فغضبوا من قولي وزعموا أنهم يريدون القتال واتهموني وقالوا: إنك قد ملأت البوم علينا. وردّوا رأيي ونصيحتي وعذّبوني هذا العذاب”.
فلما سمع ملك البوم ما قال الغراب قال لأحد وزرائه: ما ترى في هذا الغراب. قال: “ليس لك في أمره نظرٌ إلا المعالجة بالقتل. فإن هذا من أعز أصحاب ملك الغربان وأقرب إليه محلاً وأفضل عنده رأياً وأشد منه خداعاً، وفي قتله لنا فتح عظيم وراحة لنا من رأيه ومكيدته، وفقده على الغربان شديد. وكان يقال: من استمكن من الأمر الجسيم فأضاعه لم يقدر عليه ثانية، ومن التمس فرصة العمل فأمكنته فأغفل عمله فاته الأمر ولم تعد إليه الفرصة. ومن وجد عدوّه ضعيفاً معوزاً فلم يسترح منه أصابته الندامة حين يبغي العدوّ ويستعد فلا يقوى عليه”.
قال الملك لآخر من وزرائه: ما ترى في هذا الغراب. قال: “أرى ألا تقتله. فإن العدو الذليل الذي لا شوكة له أهل أن يرحم ويستبقى ويصفح عنه. والمستجير الخائف أهل أن يؤمّن ويجار مع أن الرجل ربما عطفه على عدوّه الأمر اليسير، كالسارق الذي عطف على التاجر امرأته بأمر لم يتعمّده”.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
مثل التاجر وامرأته واللص
قال الوزير: زعموا أنه كان تاجر كثير المال وهو شيخ مسن له امرأة شابة وكان كلفاً بها يعتني بأمرها وأمر ولدها. وكانت هي قالية له لكبر سنه فتعرض عن خدمته. وكان التاجر يعلم ما في نفسها فلا يزيده ذلك إلا حباً لها. ثم إن سارقاً أتى بيت التاجر ليلة، فلما دخل البيت وجد التاجر نائماً وامرأته مستيقظة، فذعرت من السارق ووثبت إلى زوجها واستجارت به والتزمته. فاستيقظ التاجر بالتزامها فقال: من أين لي هذه النعمة؟ ثم بصر السارق وعلم أن فرق امرأته من السارق دعاها إلى للياذ به، فناداه فقال: أيها السارق أنت في حلّ مما أردت أخذه من مالي ومتاعي ولك الفضل بما عطفت عليّ قلب زوجتي.
ثم إن الملك سأل الثالث من وزرائه عن الغراب، فقال: “أرى أن تستبقيه وتحسن إليه فإنه خليق أن يناصحك. فإن ذا العقل يرى ظفراً حسناً معاداة بعض معدوّه بعضاً، ويرى اشتغال بعض العدوّ ببعض واختلافهم نجاة لنفسه منهم كنجاة الناسك من اللص والشيطان لما اختلفا عليه”.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
الناسك واللص والشيطان
قال الوزير: زعموا أن ناسكاً أصاب من رجل بقرة حلوباً، فانطلق بها يقودها إلى منزله فتبعه لصّ يريد سرقتها، وصحبته شيطان في صورة إنسان. فقال اللص للشيطان: من أنت؟ قال: أنا شيطان أريد أن أختطف نفس هذا الناسك إذا نام الناس فأخنقه وأذهب بنفسه. وسأل الشيطان اللص: وأنت من أنت؟ قال: أنا لص. فإني أريد أن أتبعه إلى منزله لعلي أسرق هذه البقرة. فانطلقا مصطحبين حتى انتهيا مع الناسك إلى منزله ممسيين. فدخل الناسك وربط البقرة في زاوية المنزل ثم تعشى ونام. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان بأخذ نفس الناسك قبل أن يأخذ البقرة أن يصيح الناسك فيجتمع الناس لصوته فلا يقدر على سرقة البقرة، فقال له: انتظرني حتى أخرج البقرة ثم عليك بالرجل. فأشفق الشيطان إن بدأ اللص أن يستيظ الناسك فيصيح ويجتمع الناس إليه فلا يقدر على أخذه، فقال: بل انتظرني حتى آخذ الناسك وشأنك وبالبقرة. فأبى كل واحد على صاحبه، فلم يزالا باختلفافهما حتى نادى اللص الناسك أن استيقظ أيها الناسك فهذا شيطان يريد أخذك. وناداه الشيطان أن استيقظ أيها الناسك فهذا اللص يريد أخذ بقرتك. فانتبه الناسك وجيرانه بصوتهما فنجا منهما ولم يقدرا على ما أرادا وهرب الخبيثان خائبين.
فلما فرغ الثالث من كلامه قال الأول الذي كان قد أشار بقتل الغراب: “أراكنّ قد غرّكن هذا الغراب وخدعكن بكلامه وتضرّعه، فأنتن تردن تضييع الرأي والتغرير بجسم الأمر، فمهلاً مهلاً عن هذا الرأي، وانظرن ذوي الألباب الذي يعرفون أمورهم وأمور غيرهم، فلا يلقكنّ عن رأيكن فتصبحن كالمعجزة الذين يغترون بما يسمعون أشد تصديقاً منه بما يعلمون، وكالنجار الذي كذّب ما ر أى وعلم وصدّق ما سمع فاغترّ وانخدع”.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
مثل النجار المخدوع وحميه
قال الوزير: زعموا أن نجاراً كان له امرأة يحبها، وكان قد بلغه عنها أنه إذا غاب يأتيها أبوها فتفتح له بمفتاح مغشوش خزانة زوجها فيأخذ من صندوقه ما شاء من المال. فأحب أن يتيقّن ذلك فقال لامرأته: إني أريد الذهاب إلى قرية منا على فراسخ لبغض أعمال الإمارة، وأنا ماكث هناك أياماً فأعدي لي زاداً. ففرحت المرأة بذلك وهيّأت له زاداً. فلما أمسى قال لها: استوثقي من باب دارك واحتفظي ببيتك حتى أرجع إليك بعد أيام. وخرج وهي تنظر حتى جاوز الباب. ثم عطف وعاد إلى البيت من باب آخر ودخل الخزانة فاختفى تحت سرير زوجته. وأرسلت المرأة إلى أبيها أن ائتنا فقد انطلق النجار في حاجة سيغيب فيها أياماً. فأتاها أبوها فأطعمته وسقته وفتحت له صندوق زوجها فأخذ ما بدا له، وبقيا في حديثهما إلى منتصف الليل. فغلب النعاس على النجار فنام وخرجت رجلاه من تحت السرير، فرأتهما امرأته فأيقنت بالشر فسارّت أباها أن ارفع صوتك فسلني: أنا أحب إليك أم زوجك؟ ففعل أبوها كما قالت وردّت عليك: “يا أبت ما يضرّك إلى هذه المسألة؟ ألست تعلم أنا معشر النساء يوم ندخل بيت زوجنا نفضله على كل من سواه حتى الأخ والوالد؟ فلحى الله امرأة لا يكون زوجها عندها كعدل نفسها، فلا سمعتك تذكره مرة أخرى”. فسمع النجار لهذه المقالة من امرأته ورقّ لها وأخذته العبرة والرحمة لها ووثق منها بالمودة، فلم يبرح مكانه كراهة أن يؤذيها، ولم يزل هناك حتى أصبح وعلم أن حماه قد خرج فخرج من تحت السرير، فوجد امرأته نائمة فقعد عند رأسها يذبّ عنها حتى إذا انتبهت قال لها: سرني جوابك لأبيك، ولولا كراهة ما يسوؤك لكان بيني وبينك صخب وأمر شديد.
وإنما ضربت لك هذا المثل إرادة ألا تكون كذلك النجار والمكذّب بصره المصدّق بما سمع من امرأته. فلا تصدقوا الغراب بمقالته واذكروا أن كثيراً من العدو لا لا يستطيع ضرّ عدوه بالمباعدة حتى يلتمسه بالمقاربة والمماسحة. وإني لم أخف الغربان قط خوفهم منذ رأيت هذا الغراب وسمعت مقالتكم فيه.
فلم يلتفت ملك البوم وسائر وزرائه إلى كلامه وأمر ملك البوم بالغراب أن يُحمل إلى مكانهن ويوصى به خيراً ويكرم.
فقال الوزير الذي كان يشير بقتله: “إذا لم يقتل هذا الغراب فلتكن منزلته على ذلك منزلة العدو المخوف شره، المحترس منه. فإن الغراب ذو إرب ومكايد ولا أراه لجأ إلى هاهنا إلا لما يصلح له ويفسدنا”. فلم يرفع الملك بقوله رأساً ولم يمنعه من إكرام الغراب والإحسان إليه، وجعل الغراب يكلمه إذا دخل عليه بألطف ما يجد ويكلم البوم إذا خلا بهنّ كلاماً يزددن في كل يوم به ثقة، وإليه استرسالاً وبه أنساً وله تصديقاً. ثم إنه قال يوماً وعنده جماعة من البوم فيهن الوزير الذي كان يشير بقتله: “ليبلّغنّ عني بعضكم الملك بأن الغربان وترتني وترةً عظيمة بما فضحتني وعذبتني، وأنه لا يستريح قلبي أبداً حتى أدرك منهم بغيتي، وإني قد نظرت في الأمر فلم أجدني أستطيع ذلك وأنا غراب. وقد بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: من طابت نفسه عن نفسه فأحرقها بالنار إنما يقرّب إلى الله قرباناً عظيماً ولا يدعو عند ذلك بدعوة إلى استجيبت له. فإن رأى ا لملك أن يأمرني فأحرق لأدعو ربي أن يحولني يومياً لأنتقم من عدوي وأشفي غليلي إذا تحوّلت في خلق البوم”.
قال الوزير الذي كان يشير بقتله: “ما أشبّهك با غراب في حسن ما تبدي وسوء ما تخفي إلا بالخمر الطيبة الريح، الحسنة اللون المنقع فيها السم. أرأيت لو أحرقناك بالنار كان جوهرك وطباعك يحرقان معا؟ أليس تدور حيث ما درت فتصير إلى أصلك وطباعك كالفأرة التي وجدت من الأزواج الشمس والسحاب والريح والجبل، وتركت ذلك كله وتزوجت جرذاً”.
قيل له: وكيف كان ذلك؟
مثل الناسك والفأرة المحولة جارية
قال البوميّ: زعموا أن ناسكاً عابداً كان مستجاب الدعوة. فبينما هو قاعد على شاطئ النهر إذ مرت به حدقة في رجلها درصة. فوقعت من رجلها عند الناسك فأدركته لها رحمة، فأخذه ولفها في ردنه وأراد أن يذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن يشقّ على أهله تربيته فدعا ربه أن يحولها جارية فأعطيت حسنا وجمالا، فانطلق بها الناسك إلى بيته فقال لامرأته: هذه يتيمة فاصنعي بها صنيعك بولدك. ففعلت ذلك حتى إذا بلغت اثنتي عشرة سنة قال لها: يا بنية فقد أدركت ولا بد لك من زوج فاختاري من أحببت من إنسيّ أو جني أقرنك به. قال: أريد زوجاً قوياً شديداً. فقال لعلك تريدين الشمس. فقال للشمس: هذه جارية جميلة هي عندي بمنزلة الولد زوّجتكما لأنها طلبت زوجاً قوياً منيعا.
قالت الشمس: أنا أدلك على من هو أقوى ني: السحاب الذي يغطي نوري ويغلب عليه. فانصرف الناسك إلى السحاب فقال له مثل تلك المقالة، فقال له السحاب: أنا أدلك على من هو أقوى مني وأشد: الريح التي تقبل بي وتدبر. فانصرف الناسك إلى الريح فقال لها مثل مقالته: فقالت الريح: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجبل الذي لا أستطيع له تحريكاً. فانصرف الناسك إلى الجبل فقال له مثل مقالته تلك، فقال الجبل: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي يثقبني فلا أستطيع الامتناع عنه. قال الناسك للجرذ هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال له: كيف أتزوجها وأنا صغير ومسكين ضيق والجرذ يقترن بالفأرة. فطلبت الجارية إلى الناسك أن يدعو ربه ليحوّلها فأرة، فأجابها إلى ذلك ودعا ربه فتحولت فأرة ورجعت إلى أصلها الأول فتزوجها الجرذ. فهذا مثلك أيها المخادع.
فلم يلتفت ملك البوم ولا غيره إلى هذه المقالة، ورفقت البوم بالغراب فلم يردن إلا إكرامه، حتى استأنس بهن ونبت ريشه وسمن وصلح، وعلم ما أراد أن يعلم، واطلع على ما أراد أن يطلع عليه الغربان، فطار سراً وعاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى وسمع، فقال لملك الغربان: أبشرك بفراغي مما أردت الفراغ منه وإنما بقي ما قبلكم فإن أنت جددتم وبالغتم في أمركم فهو الفراغ من ملك البوم وجنده.
فقال ملك الغربان: نحن عند أمرك فمرنا بما بدا لك.
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا وكذا، وهن يجتمعن بالنهار في مكان كذا وكذا من الجبل، وقد علمت مكاناً فيه الحطب اليابس كثيراً فليحمل كل غراب منكم ما استطاع من ذلك الحطب إلى باب الثقب الذي فيه البوم بالنهار. وقرب ذلك الجبل قطيع غنم، فإني أمضي آخذ منه ناراً فآتي بها باب الثقب فأقذّفها في الحطب المجموع. ثم تعاونوا فلا تفتروا واضربوا بأجنحتكم ضرباً ترويحاً ونفخاً للنار حتى تضرم في الحطب، فما خرج من البوم احترق بالنار وما بقي مات بالدخان.
ففعلوا ذلك فأهلكوا البوم ثم رجعوا إلى أوطانهم آمنين سالمين. ثم إن ملك الغربان قال لذل الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟
قال الغراب: إن ذلك كذلك، ولكن العاقل إذا نابه الأمر العظيم المفظع الذي يخاف منه الجائحة الجائفة على نفسه وقومه لم يخرج من شدة الصبر عليه رجاء عاقبته، ولم يجد لذلك مساً ولم تكره العيشة مع من هو دونه حتى يبلغ حاجته وهو حامد لغبّ أمره، مغتبطٌ لما كان من أمر رأيه واصطباره.
قال الملك: أخبرني عن عقول البوم.
قال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الوزير الذي كان يحرص على قتلي ويحرضهن على ذلك مرارا. فكنّ أضعف شيء رأياً، إذ لم ينظرن في أمري ولم يذكرن أنني كنت ذا منزلة في الغربان أعد من ذوي الرأي. فلم يتخوّفن مني المكر والحيلة. فأخبرهن الحازم الناصح المطّلع على ما في نفسي برأيه، وأشار عليهن بالنصح لهنّ فرددن رأيه فلا هن عقلن ولا من ذي العقل قبلن، ولا حذرنني ولا حصّنّ أسرارهن دوني. وقد قالت العلماء: ينبغي للملك أن يحصّن دون المتهم أسراره وأموره فلا يدنو من مواضع أسراره وأموره وكتبه ولا من الماء والحوض الذي يعدّ لغسله ولا من فراشه ودثره ولا من كسوته ولا من مراكبه ولا من سلاحه ولا من طعامه وشرابه ولا من دوائه ولا من ذهبه وطيبه ورياحينه، ولا يؤمّن على نفسه إلا الثقة الأمين السالم الباطن والظاهر ويكون بعد ذلك كله على حذر منه، لأن عدوه لا يتوصل إليه إلا من جهة ثقاته. وربما كان الثقة صديقاً لعدوه فيصل العدو إلى مراده منه.
قال ملك الغربان: لم يهلك ملك البوم عندي إلا بغيه وضعف رأيه وموافقته لوزراء السوء.
قال الغراب: صدقت. فإنه كان يقال: قلّ ما ظفر أحد بغنى ولم يطغ. وقلما حرص الرجل على النساء فلم يفتضح. وقلّ من أكثر من الطعام ولم يسقم. وقلّ من ابتلي بوزراء السوء فلم يقع في المهالك. وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن، ولا الخبّ في كثرة الصديق، ولا السيء الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب، ولا الملك المختال المتهاون الضعيف الوزراء في ثبات ملكه.
قال ملك الغربان: لقد احتملت مشقة شديدة بتصنعك للبوم وتضرّعك لهن.
قال الغراب: لقد كان ذلك كذلك ولكن صبرت على ذلك لما رجوت من حسن منفعته، لأنه يقال: لا يكبر على الرجل حمل عدوّه على عاتقه إذا وثق بحسن عاقبته. وقد قيل: إنه من احتمل مشقة يرجو لها منفعة صبر على ذلك، كما صبر الأسود على حمل الضفدع على ظهره.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
مثل الأسود وملك الضفادع
قال الغراب: زعموا أن أسودَ كبر وهرم فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه حتى انتهى إلى غدير ماء كثير الضفادع قد كان يأتيه ويصيد من ضفادعه، فوقع قريباً من الغدير شبيهاً بالحزين الكئيب. فقال له ضفدع. ما شأنك أراك كئيباً حزيناً؟ قال: ما لي لا أكون حزيناً إنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيد من الضفادع، فابتليت ببلاء حرّمت عليّ الضفادع حتى لو لقيت بعضها على بعض لم أجترئ على أكله. فانطلق الضفدع فبشر ملكه بما سمع من الأسود، فدنا الملك من الأسدو فقال له: كيف كان أمرك هذا؟ فقال الأسود: لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئاً إلى ما يتصدق به علي الملك. قال: ولم؟ قال: إني سعيت في أثر ضفدع منذ ليال لأخذها فطردتها إلى بيت مظلم لرجل من النساك فدخلته ودخلت في إثرها. وفي البيت مدّ ابنُ الناسك إصبعه فظننتها الضفدع فلسعتها فمات فخرجت هارباً وتبعني الناسك ودعا عليّ وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً أدعو عليك أن تذلّ وتخزى وتصير مركباً لملك الضفادع وتحرم عليك الضفادع، فلا تستطيع أكلها إلى ما تصدق به عليك ملكها. فأقبلت إليك لتركبني مقراّ بذلك راضياً. فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود، وظن أن ذلك له شرف ورفعة. فركب الأسود أياماً ثم قال له الأسود: قد علمت أني ملعون محروم لا أقدر على التصيّد. إلا ما تصدقت به عليّ فاجعل لي رزقاً أعيش به. قال الملك: لعمري لا بد لك وأنت لي مركب من رزق تعيش به. فأمر له كل يوم بضفدعتين يؤخذان فيدفعان إليه، فعاش بذلك. ولم يضرّه خضوعه للعدو الذليل، بال انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً.
وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه التماس هذا النفع العظيم الذي جعل لنا فيه بوار العدو والراحة منه.
قال الملك: وجدت ضراعة اللين والمكر أشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة والعناد، فإن النار الخفيفة تقوى بحرّها وحدّتها على أن تحرق ما فوق الأرض من الشجر الكبار. والماء بلينه ونفوذه يقتلعها من أصلها تحت الأرض، وكان يقال: في أربعة لا يستقلّ منها القليل: النار والمرض والعدو والدّين.
قال الغراب: ما كان من ذلك فبسعادة جدّ الملك ورأيه فإنه قد كان يقال: إذا طلب اثنان حظاذ ظفر به أفضلهما مروءة. فإن استويا في المروءة فأمضاهما رأيا، فإذا استويا في ذلك فأفضلهما أعواناً، فإن استويا في ذلك فأسعدهما جدا. وقد كان يقال: من غالب الملك الحازم الأريب الذي لا تبطره السرّاء ولا تدهشه الضرّاء كان هو الداعي الحتف لنفسه. ثم لا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بالأمور وفرص الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعالجة والأناة، الناظر في يومه وعواقب أعماله.
قال الملك: بر برأيك وعقلك كان هذا. فإن رأي الرجل الواحد أبلغ في إهلاك العدو من الجنود الكثيرة من ذوي البأس والنجدة والعدد والعدة. وإن من أعجب أمرك عندي طول لبثك عند البوم، وأنت تسمع الغلظ من كلامهم دون أن تسقط عندهم بكلمة.
قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك، فأصحب القريب والبعيد بالرفق واللين والمتابعة والموافقة، وأخضع لهم. وقد قيل: إذا كنت بين أعداء تخافهم ولا تقدر على ضرّهم فخذهم باللطف والتؤدة والخضوع، وإياك والغلظة فإنك لا تصيب بذلك ظفراً. وإنت سمعت منهم غليظ الكلام فغض عنه النظر. وقد قيل إن الرجل الكامل المشاور أهل النبل في الرأي والعقل إن رأى في بدء أمره وسمع من بشاعة اللفظ ومخالفة الهوى ما يكره وصبر على ذلك فإن ذلك يعقب منفعة وراحة وسروراً. وإنّ مشاورة من يتبع هوى المستشير ولم ينظر في عاقبة أمره وإن نال من العاجل فرحاً وروحاً فإن عاقبة أمره تصير إلى ضرر وخسران.
قال الملك: وجدتك صاحب العمل ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل ليست لها عاقبة حميدة. فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن نجد قبلها لذة الطعام ولا النوم.
قال الغراب: إنه يقال: لا يجد السقيم لذة النوم ولا الطعام حتى يبرأ. ولا الرجل الشره الذي قد أطمعه السلطان في مال أو عمل حتى ينجزه له. ولا الرجل الذي قد ألحّ عليه عدوه، فهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه. وقد كان يقال: من أقلعت عنه الحمّى أراح قلبه. ومن وضع الحمل الثقيل أرح متنه. ومن أمن عدوّه ثلج صدره. فأسأل الله الذي أهلك عدوّك أن يمتعك بسلطانك وأن يجعل لك بعد ذلك صلاح رعيّتك ويشركهم في قرّة العين بملكك. فإن الملك إذا لم يكن في مملكته قرّة عيون رعيّته فمثله مثل زنمة العنز التي يمصّها الجدي فلا يصادف فيها خيراً.
قال الملك: كيف كانت سيرة ملك البوم في جنده؟
قال: سيرة بطر وأشر وختل وعجز وضعف رأي. وكل أصحابه ووزرائه كان شبيهاً به إلا الذي كان يشير بقتلي. فإنه كان حكيماً أريباً فيلسوفاً حازماً قلّما يرى مثله في علوّ الهمة وكمال العقل وجودة الرأي.
قال: وأيّ خلّة رأيت كانت أدلّ لك على عقله؟
قال الغراب: خلّتان، الواحدة رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكن يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلّها، ولم يكن كلامه مع هاتين كلام خرق ولا مكابرة، ولكن كلام رف ولين حتى ربما أخبره بعيبه وهو لا يغضبه، وإنما يضرب له الأمثال ويحدّثه عن عيب غيره فيعضر به عيب نفسه، ولا يجد للغضب عليه سبيلاً.
وكان مما سمعته يقول للملك أن قال: لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به إلا القليل، ولا تقابله إلا بالحزم. وهو إذا فات لم يدرك. فينبغي للملك أن يكون متفقداً لأموره ذا حزم فيها. فإن لم يحسن ولايته ورعايته قلّت راحته وهدوّه، كالقرد الذي يُرى لأدنى حركة قلقاً. والملك عزيز عزوف، فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه. فإنه قد قيل: إنه في قلة بقائه مثل قلة بقاء الظل على ورق النيلوفر، وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئيم، وفي مراقبته كالتنين. وهو في سرعة الإقبال والإدبار كالريح، وفي الثقل كصحبة البغيض، وفيما يخاف من مفاجأة عطبة كالحية، وفي سرعة الذهاب كحباب الماء من وقع المطر. وفي قلة ما يستمع به وينال منه كحاكم يغنى في رقدته، فلما هبّ لم يجد عليه حلمه. فأهلك الله أعداء الملك وأدال منهم ولا زال في عليا وصنع وتوفيق.
فهذا مثل أهل العداوة الذين ينبغي العاقل أن لا يغترّ بهم وإن هم أظفروا تودداً وضراعةً.