باب إيلاذ وشادرم وإيراخت

  مصنف: كليلة و دمنة - - 1409 0

قال الملك دبشليم لبيدبا الفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت من أمر العجول غير المتأيد ولا المتثبت فأخبرني ما الذي إذا عمل به الملك كرم على رعيّته وثبّت ملكه، ألحلم أم المروءة أم الحميّة أم الجود؟
فقال الفيلسوف: إنّ أفضل ما يحفظ به الملك ملكه الحلم والعقل لأنهما رأس الأمور وملاكها مع مشاورة الملك. فإن الحلم أفضل ما يستعين به على أموره. ثم من صلاح المرء في معيشته المرأة الصالحة الفاضلة الرأي المؤاتية. فإن الرجل وإن كان شجاعاً رئيساً ثم لم يكن له من يشاوره حليماً عاقلاً وشاور غير لبيب، فإنه يبهظه الأمر اليسير حتى ترى فيه القبح والضعف لجاهلته وخطإ رأي أصحابه. فإن أصاب ظفراً أو لقي رشداً لقدر ساقه إليه صارت عاقبة أمره إلى ندامة. وإذا كان على خلاف ذلك من الفضل وآزره في التدبير وزير عاقل ثم أعانه القضاء أصاب الفلاح على من خاصمه والغلبة على من ناوأه والسرور لمن أحزنه، كما زعموا أنه جرى بين شادرم ملك الهند وإيراخت امراـه وإيلاذ صاحب سره ورأيه.
فقال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الفيلسوف: زعموا أن إيلاذ كان ناسكاً مجتهداص حسن الخلق ليّناً حليماً كاملاً. فبينما شادرم الملك ذات ليلة نائم في غرفة له إذ رأى ثمانية أحلام يستيقظ عند كل حلم منها. فلما أصبح دعا البراهمة، وهم النساك، فقص عليهم ما رأى وأمرهم أن يعبروها، فقالوا: قد رأيت أيها الملك أمراً منكراً معجباً لم نسمع بمثله فيما مضى. وإن أحببت أن تنطلق فنفكّر فيه ستة أيام ونأتيك في اليوم السابع فنخبرك به، ولعلنا نستطيع أن ندفع ما تتخوف منه.
قال الملك: فاعملوا برأيكم فيما تعلمون أنه يوافقني.
قالوا: نعم وخرجوا من عنده واجتمعوا وقالوا: لم يطل العهد منذ قتل منا اثني عشر ألفاً، وقد استمكنا منه إذ أفضى إلينا بسرّه وعرّفنا فرقه من رؤياه، ولعلنا ننتقم منه إن نحن أغلظنا له القول فيحمله الخوف على أن يتابعنا ما نريد، فنأمره أن يدفع إلينا من يكرم عليه من أهله ووزرائه ونقول له: إنا قد نظرنا في كتبنا فلم نجد شيئاً يصرف ما رأيت إلا قتل من ينتمي لك. إن قال: ومن تريدون؟ قلنا: إيراخت امرأتك وابنها جوبر وابن أختك إيلاذ صاحب أمرك، فإنه ذو حيلة وعلم، وكال كاتبك ولسانك. ونريد سيفك والفيل الأبيض الذي تقاتل عليه، وكنان أبزون الفقيه. فتجعل دماءهم في مرجل نقعدك فيه، فإذا أردنا أن نخرجك منه اجتمعنا معشر البرهميين من الآفاق الأربعة فرقيناك ومسحنا عليك وغسّلناك بالماء والدهن الطيب، ثم صيّرناك إلى مجلسك فيُذهب الله عنك ما تحذر مما رأيت. فإن أنت صبرت على هذا وطبت به نفساً خلصت من البلاء ونجوت من الأمر العظيم الذي قد رهقك وأشرف عليك واستخلفت مكانهم مثلهم. وإن لم تفعل فإنا نتخوف أن تغصب فتهلك وينزع ملكك ويستأصل عقبك.
فلما أبرم البرهميون ذلك من رأيهم اتفقوا عليه أتوا الملك فقالوا: إنا قد نظرنا في كتبنا وتبحّرناها وفكرنا في رؤياك وأعملنا العقول فيها، فلسنا نقدر على أن نعلمك ما رأينا حتى تخلينا. ففعل ذلك فقصوا عليه الأمر على ما هيّأوا له.
فقال الملك: الموت خير مما أسمع. كيف أبدأ فأقتل هذه النفوس التي هي عندي عدل نفسي وأحتمل الإصر والوزر. ولا بد من الموت على كل حال، ولست الدهر على ملكي هذا، وإنه سواء عليّ الهلاك وفراق الأحبة.
فقال الرهميون: إنت أنت لم تغضب أخبرناك أن رأيك مخطئ وأنك لم تصب إن أهنت نفسك وأكرمت عليها غيرها. أولست تعلم أن كل شيء معها يسير وأنه لا يفيدها شيء، وإن عظم خطره أو صغر. فلعمري لئن فديتها بمن سمّيناهم لك إنه لأمثل وأخير، فتبقى في ملكك وسلطانك ويصلح لك أمرك، فانظر لها ودع ما سواها فإنه لا شيء يعدلها.
فلما رأى الملك أن البرهميين قد أغلظوا في القول واجترأوا عليه فيه قام فدخل قصره ووقع وجهه، وجعل يتقلب مهموماً محزوناً ويفكر في رأيه لا يدري ما يصنع: أيخاطر بنفسه وملكه أو ينحاز إلى ما سألوا من قتل أحبائه. فمكث بذلك أياماً وفشا الحديث في أرضه وقيل: لقد نزل بالملك أمر هو فيه في كرب.
فلما رأى إيلاذ الذي قد وقع فيه الملك من ذلك فكّر ونظر وكان فطناً عالماً مجرّباً داهياً فقال: ما ينبغي أن أستقبل الملك بشيء دون أن يدعوني ولكني أنطلق إلى إيراخت امرأة الملك فأسألها عن ذلك. فأتاها فقال: إني أعلم أن الملك لم يركب أمراً صغيراً ولا كبيراً مذ كنت معه إلى بمشورتي. فإني كنت صاحب سره ولم يكن يكتمني شيئاً طرأ عليه، وكان إذا حاربه امر مفظع عزى نفسه فيه واصطبر على ما نزل به وذكر لي ذلك فأسليه عنه بأرفق ما أقدر عليه. وإني أراه مستخلياً بالبراهمة منذ سبعة أيام وقد احتجب فيها عن الناس. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على دخلة أمره ولست آمن عليه منهم. فاذهبي إليه وسليه عن حاله وما بلغه وما الذي ذكروا له، ثم أعلميني، فإني لا استطيع أن أدخل عليه. وأحسبهم قد زيّنوا له أمراً قبيحاً وحملوه على عضيهة وأغضبوه بشيء شبهوا له فيه. فإن من أخلاق الملك إذا اغتاظ أن لا يلتفت إلى أحد ولا يسأل عن شيء ولا ينظر فيه، وسواء عليه جسيم الأمور وحقيرها. ولست أشك أنهم لم ينصحوه لما في قلوبهم من الحقد عليه والبغض له، وأنهم إن قدروا عليه وعلى هلكته التمسوا إنزالها فيه وإدخالها عليه.
قالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك كلام ولست أريد أن آتيه ما دام مذنباً لم يرع لي خاطراً.
قال إيلاذ: لا تحملن الحقد في مثل يومك هذا. فلن يقدر أحد على أن يدخل عليه غيرك، وقد كنت سمعته يقول غير مرة: “إني إذا حزنت واهتتمت فأتني إيراخت أذهبت عني ذلك”. فانطلقي إليه وكلميه بما تظنين أنه يطيب نفساً به وتجلّي عنه ما به.
فلما سمعت ذلك إيراخت نهضت إلى الملك ودخلت عليه، وجلست عند رأسه وقالت: ما أمرك أيها الملك السعيد الرشيد المحمود؟ وما الذي قال لك البرهميون؟ فإني أراك مهموماً حزيناً. إن كان الذي ينبغي أن تحتاله أمراً فيه جلاء همك وسرورك ونفعك فيه استئصال أنفسنا فافعل ذلك، وإن يكن بك غضب علينا نرضك ونأت ما يسرّك.
فقال الملك: لا تسأليني أيتها المرأة عن شيء فتزيديني خيالاً إلى ما بي. فإنه لا ينبغي أن تعلمي ذلك الأمر العظيم خطره، الشديد هوله، ولا تجديك معرفته نفعاً.
فقالت إيراخت: أو قد صار أمري عندك إلى أن تجيبني بمثل ما قد سمعت؟ أو ما تعلم بأن أفضل الرأي للملك إذا وقع بالأمر الذي يدهمه أن يشاور أهل نصيحته ومودّته ومن يهمه وما أحزنه؟ فإن المذنب لا يقنط من الرحمة ولكنه يتوب مما يخاف. فلا يدخلنك من الهم والحزن ما أرى بك. فإنهما لا يردان شيئاً بل يشتمان العدو ويسوءان الصديق. وأهل العلم والتجارب ينظرون في ذلك ويصبّرون أنفسهم على ما فاتهم من عرض الأطماع ونزل بهم من حوادث الأزمان.
فقال الملك: أيتها المرأة لا تسأليني عن شيء فإن في الذي تفحصين عنه دماري وهلاكك وهلاك ولدك وكثير من أهل ودي. فإن البرهميين زعموا أنه لا بد من قتلك وقتله ولا خير في العيش بعدكم ولا لذة لي عند فراقكم، وذلك أفظع الأمور وأجلها خطباً في نفسي.
فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعها، فقالت: لا يحزنك الله أيها الملك ولا يسؤك. أنفسها لك الفداء والوفاء. فإن ذلك يسير في بقائك وصلاحك. وقد جعل الله لك من الجواري ما فيه الخلف والعوض. ولكني أطلب إليك بعد موتي ألا تثق بالبرهميين ولا تستشيرهم ولا تقتل أحداً حتى تشاور فيه أهل نصيحتك والثقة لك وتعرف ما تقدم عليه. فإن القتل عظيم الخطب شديد الوزر، ولست تقدر على رد ما أهلكت. وقد قيل: “إن وجدت جوهراً لا تظن فيه خيراً وأردت أن تلقيه فلا تفعل ذلك حتى تريه من يبصره”، ولا تقرّ عين عدوك من البرهميين وغيرهم. واعلم أنهم لم ينصحوا لك أبداً وإنما قتلت منهذ منذ قريب اثني عشر ألفاً، أفتظن أنهم نسوا ذلك؟ ولعمري ما كنت جديراً أن تحدثهم برؤياك ولا تطلعهم على سرك، فإنهم يريدون بما عبّروا من رؤياك هلاكك وبوار أحبابك واستئصال وزرائك أهل الحلم والعلم والحكمة ومراكبك التي تقاتل عليها. ولكن انطلق إلى كنان أبزون فاذكر له أمرك وسله عما بدا لك، فإنه لبيب أمين وليس عند أحد شيء إلا عنده أفضل منه، وإن كان من البراهمة فإنه ناسك فقيه. فإن أشار عليك بمثل رأيهم فعلت، وإن خالف رأيه قولهم نظرت ولم تعجّل في أمرك.
فلما سمع الملك ذلك منها أعجبه فأمر بإسراج فرسه ثم ركب وانطلق إلى كنان أبزون حثيثاً. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه ثم سجد له وحياه وطأطأ رأسه. فقال كنان أبزون: ما جاء بك أيها الملك؟ ومالي أراك متغير اللون ممتلئاً حزناً ولا أرى عليك تاجك ولا إكليل الملك؟
فقال له الملك: كنت ذات ليلة نائماً على ظهر إيواني فسمعت من الأرض ثمانية أصوات أستيقظ مع كل صوت منها ثم أرقد. فرأيت ثمانية أحلام فاقتصصتها على البرهميين. فأنا أخاف أن يصيبني أمر عظيم، إما أن أقتل في حرب وإما أن أغصب في ملكي فأغلب عليه.
ثم قصّ الملك عليه الرؤيا فقال له البرهمي: لا يحزنك هذا الأمر ولا يوجلنّك، فإنك لا تموت الآن ولن تسلب ملكك ولن يصيبك شيء من الآثام والشرور التي تحذر. فأما الأحلام الثمانية التي رأيت فإني منبئك بتأويلها. تدل السمكتان الحمراوان اللتان قامتا على ذنبيهما أنه يأتيك من قبل هميون رسول يهديك من قبله هدية ثمنها أربعة آلاف رطل من ذهب. وأما البطتان اللتان رأيت أنهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من عند ملك بلخ من يقوم بين يديك بفرسين ليس في الأرض مثلهما. وأما الحية التي رأيتها دبّت على رجلك اليسرى فإنه يأتيك من قبل ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديدة لا يوجد مثله. وأما الدم الذي رأيت أنه يخضب جسمك فإنه يأتيك من قبل ملك كاسرون من يقوم بين يديك بلباس معجب يسمى حلة أرجوان يضيء في الظلمة. واما ما رأيت من غسلك جسمك بالماء فإنه يأتيك من قبل ملك راز من يقوم بين يديك بثياب من لباس الملوك. وأما ما رأيت من أنك على جبل أبيض فإنه يأتيك من خيار الملوك من يقوم بين يديك بإكليل من ذهب مكلل بالدر والياقوت. وأما الطير الأبيض الذي ضرب رأسك بمنقاره فلست بمفسّره لك اليوم وليس بضارّك فلا توجلنّ منه، ولكن فيه بعض السخط والإعراض عمن تحب. فأما البرد والرسل فإنهم يأتونك بعد سبعة أيام جميعاً فيقومون بين يديك.

فلما سمع الملك ذلك سجد بين يدي كنان أبزون وانصرف وقال: إني لناظر فيما قال. فلما كان اليوم السابع لبس الملك ثيابه وأخذ زينته وقعد في مجلسه وأذن للعظماء والأشراف، فجاءته تلك الهدايا التي أخبره عنها كنان أبزون فوضعت بين يديه. فلما رأى الملك أولئك البرد والرسل وتلك الهدايا اشتد فرحه لذلك وقال في نفسه: “لم أوفّق حين قصصت رؤياي على البرهميين فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله حماني ورحمني وتداركني برأي إيراخت كنت هلكت وزالت دنياي. فلذلك ينبغي لكل أحد أن يسمع من الأخلاء والأحباء وذوي القرابات رأيهم ويقبل مشورتهم. فإن إيراخت أشارت علي برأي فقبلته واغتبطت به فثبت لي ملكي بأي الأخلاء والنصحاء واستبان لي أيضاً علم كنان أبزون وصدق قوله”. ثم دعا الملك جوبر وإيلاذ وكال الكاتب فقال لهم إنه لا ينبغي لنا أن ندخل هذه الهدايا خزائننا ولكني سأقسمها بينك أنت الذي وطّنتم أنفسكم على الموت في سببي وبين إيراخت التي أشارت عليّ بالرأي الذي انتفعت به في بقاء ملكي والذي ترون من الفرح والسرور.
فقال إيلاذ: إنه لا ينبغي لنا معاشر العبيد أن نعجب لما كان منا في ذلك. فإن العبد ينبغي له أن يسلم نفسه في الموت مكان سيده. فأما هذه العطية فلا ينبغي لنا معشر العبيد أن ندنو منها. فأما جوير ابنك فهو لنا أهل فليأخذ ما أعطيته.
فقال الملك: إنه قد شاع لنا في هذا ثناء وخير كبير فلا تحتشمنّ يا إيلاذ وخذ نصيبك وقرّ به عيناً.
فقال إيلاذ: ليكن من ذلك ما أحب الملك أن يبدأ بأخذ ما يريد فليفعل. فأخذ الملك الفيل الأبيض وأعطى جوبر أحد الفرسين وأعطى إيلاذ السيف الخالص الحديدة وأعطى كال الكاتب الفرس الآخر وبعث إلى كنان أبوزون باللباس الذي تلبسه الملوك. وأما الإكليل وسائر اللباس وما كان يصلح للنساء فقال لإيلاذ: خذ الإكليل والثياب احملها معي واتبعني إلى النساء. فدعا الملك زوجتيه إيراخت وكورقناه فجلستا بين يديه، وقال الملك: يا إيلاذ ضع الإكليل والكسوة بين يدي إيراخت فلتأخذ أيها شاءت. فلما نزرت إيراخت إلى الإكليل وعجبه نظرت إلى إيلاذ بمؤخر عينها ليريها أيهما أفضل فأراها إيلاذ الثياب وأشار إليها بأخذها، فحانت من الملك التفاتة فرأى إيلاذ. فلما رأت إيراخت أن الملك قد أبصر إيماءه إليها بعينه تركت الذي أراها إيلاذ وأخذت الإكليل. فعاش إيلاذ بد ذلك أربعين سنة كلما دخل على الملك كسر عينيه لئلا يظن الملك أنه أراها شيئاً. ولولا عقل إيراخت وعقل إيلاذ لم ينج واحد منهما من الموت.
وكان الملك يقضي ليلة عند إيراخت وليلة عند كورقناه، فأتى الملك إيراخت في ليلة وقد صنعت له أرزاً فدخلت على الملك وفي يدها صحفة من ذهب والإكليل على رأسها فقامت على رأس الملك بالصحفة وهو يطعم منها. فلما رأت كورقناه الإكليل على رأس إيراخت غارت على إيراخت فلبست تلك الثياب فظهر حسنها مثل الشمس ومرّت بين يدي الملك فاشتاق إلى كورقناه وقال لإيراخت: لقد كنت جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة التي ليس في خزائننا مثلها.
فلما سمعت إيراخت ذلك من قوله ومدحه كورقناه وتسفيه رأيها ألبست الغيظ والغضب فضربت الصحفة التي كانت في يدها رأس الملك فسال الأرز على رأسه وعلى جسمه. وكان ذلك تصديق الحلم الذي كان كنان أبوزن شرح للملك بطرف منه ولم يكن بيّنه له. فدعا الملك إيلاذ فقال: يا إيلاذ ألا ترى إلى ملك العالم كيف حقرته هذه المرأة وعملت به ما علمت، فانطلق بها واضرب عنقها ولا ترحمها.
فخرج إيلاذ بإيراخت من عند الملك وقال في نفسه: ما أنا بقاتلها حتى يسكن غضب الملك، فإنها امرأة عاقلة سعيدة من الملكات ليس لها من بين النساء عِدل في الحلم والعقل وليس الملك بصابر عنها. وقد خلص بها إلى اليوم أناس كثير من الموت وعملت أعمالاً صالحة ورجاؤنا فيها اليوم عظيم، ولست آمن أن يقول: “ما استطعت أن تؤخر قتلها؟”. فلست قاتلها حتى أنظر ما رأي الملك فيها، فإن ندم على قتلها وحزن جئته بها حية، وكنت قد عملت ثلاثة أعمال عظام: نجيت إيراخت من القتل، وسليت حزن الملك، وافتخرت بذلك على الناس. وإن لم يذكر ها أمضيت أمره فيها.
فانطلق بها إيلاذ سراً إلى منزله فوكل بها رجلين من أمناء الملك الذي يلون نساءه وأمر أهله بحفظها وإكرامها حتى ينظر كيف يكون آخر أمرها. ثم خضّب إيلاذ سيفه بالدم ودخل على الملك كئيباً حزيناً، فقال للملك: قد أمضيت أمرك في إيراخت.
فلم يلبث الملك أن سكن غضبه فذكر جمال إيراخت ورأيها وعظم عنائها وجسيم منفعتها فاشتد حزنه وجعل يقوّي نفسه ويتجلد وهو على ذلك يستحيي أن يسأل إيلاذ: أأمضى أمره حقاً فيها أم لا. وجعل يرجو لها البقاء لعلمه بعقل إيلاذ أن لا يكون قتلها. ونظره إيلاذ بفضل علمه فقال: لا أحزن الله الملك ولا يهتمّنّ فإنه ليس في الغم والحزن منفعة، ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه مع ما يدخل على أهل الملك أيضاَ من الحزن إذا حزن، وفرح أعداؤه وشمتوا به، وإنه إذا سمع بهم لم يعدم من صاحبه عقلاً ولا علماً. فاصبر أيها الملك ولا تحزن على ما لست بناظر إليه أبداً وإن أحبّ الملك حدّثته بحديث شبيه بأمره هذا.
قال الملك: حدثني به.

مثل الحمامتين

قل إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملآ عشهما من البر والشعير فقال الذكر للأنثى: إننا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا بآكلين مما في عشنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم نصب في الصحارى شيئاً أقبلنا على ما جمعناه فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك وقالت: نعم ما رأيت وسنفعل ما ذكرت. وكان البر والشعير ندياً حين وضعاه فامتلأ عشهما فانطلق الذكر إلى مكان تغيب فيه فأبطأ. فلما كان الصيف يبس ذلك الحب وذبل فنقص مما كان. ثم رجع الذكر فرأى ذلك الحب ناقصاً فقال للأنثى: قد كنا أجمعنا على أن لا نأكل من عشنا شيئاً فلم أكلت منه. فحلفت الأنثى أن “ما أكلت منه حبة”، فلم يصدقها وجعل ينقرها حتى قتلها. فلما جاء الشتاء والأمطار ندي الحب فامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر أن العشّ قد امتلأ اضطجع إلى جانبها نادماً وقال: كيف ينبغي لي العيش إذا طلبتك فلم أقدر عليك. فمن كان عاقلاً علم أنه لا ينبغي أن يعجّل بالعذاب والعقوبة لا سيما بعذاب من يخاف أن يندم على عذابه كما ندم الحمام الذكر

وقد سمعت أن رجلاً كان على ظهره كارة من عدس فدخل بين الشجر فوضع حمله ثم رقد. فنزل قرد من شجرة كانت فوق رأسه فأخذ ملء كفه من ذلك العدس ثم صعد إلى الشجرة فسقطت من يده حبة فطلبها فلم يجدهخا وانتثر العدس من يده. وأنت أيها الملك تحت أمرك عدد لا يحصى من الإماء وتطلب ما لا تجد.

فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت فقال إيلاذ: في سقطة واحدة كانت مني فعلت ما أمرتك به من ساعتك وتعلقت بكلمة واحدة ولم تتثبت في الأمر؟

قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف فيه هو واحد فقط.

قال الملك: ومن ذلك؟

قال إيلاذ: ذلك الله الذي لا يبدل كلامه ولا يخلف قوله.

قال الملك: لقد اشتد حزني بقتل إيراخت أم جوبر.

قال إيلاذ: إثنان فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل حين يعاينان الشر: الكافر الذي يقول لا حساب ولا عقاب والذي لم يعمل براً قط.

قال الملك: لئن رأيت إيراخت حية لا أحزن على شيء أبداً.

قال إيلاذ: إثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد بالبر كل يوم والذي لم يأثم قط.

قال الملك: أفما أنا بناظر إلى إيراخت بعد هذا؟

قال إيلاذ: إثنان لا ينظران أبداً: الأعمى والذي لا عقل له. فكما أن الأعمى لا يبصر سماء ولا نجوماً ولا أرضاً ولا يبصر البعيد من القريب، ولا أمامه ولا خلفه، كذلك الذي لا عقل له لا يبصر ولا يعرف العالم من الجاهل ولا الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء.

قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي.

قال إيلاذ: إثنان هما فرحان: البصير والعالم. فكما أن البصير يبصر نور العالم وما فيه، كذلك العالم يبصر البر والإثم ويعرف أمر الآخرة ويستبين له، ومتى تبعه نجّاه وهداه إلى صراط مستقيم.

فقال الملك: ما شعبت من رؤية إيراخت قط.

قال له إيلاذ: إثنان لا يشبعان أبدا: الذي لا همّ له إلا جمع المال والذي يأكل ما وجد ويسأل ما لا يجد.

فقال الملك: إنه لينبغي لنا أن نتباعد منك يا إيلاذ فإن من مثلك حذّر ونهي.

فقال إيلاذ: إثنان ينبغي أن نتباعد منهما: الذي يقول لا بر ولا إثم، والذي لا يستطيع صرف بصره عما ليس له ولا أذنه عن استماع السوء، ولا ميله إلى نساء غيره ولا قلبه عما تهمّ به نفسه من الإثم والحرص. وأخرى من ذلك الندامة الهرب من عذاب جهنم.

قال الملك: صرت من أمر إيراخت صفراً.

قال إيلاذ: أربعة أشياء هم أصفار: النهر الذي ليس فيه ماء، والأرض التي ليس فيها ملك، والمرأة التي ليس لها بعل، والجاهل الذي لا يعرف الخير من الشر. 

قال الملك: إنك لتلقي الجواب يا إيلاذ.

فقال إيلاذ: ثلاثة يلقون الجواب: الملك الذي يقسم ويعطي من خزائنه، والمرأة المهيّاة لبعض من تهوى من ذوي الأحساب، والرجل العالم الموفّق المعلم دين الله.

قال الملك: إنك لتحزنني بتعزيتك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يحزنوا: الذي فرسه سمين حسن المنظر سيء المخبر، وصاحب المرقة التي كثر ماؤها وقلّ لحمها فصارت لا طعم لها، والذي لا يقدر على إكرام زوجته ذات الحسب فا تزال تسمعه ما يؤذيه.

قال الملك: أهلكت إيراخت ضيعة؟

قال إيلاذ: ثلاثة يضيعون في غير الحق: الرجل الذي يلبس الثياب البيض ولا يزال عند الكير جالساً فيسوّدها بالدخان، والقصّار الذي يلبس الخفّين الجديدتين ولا يزال قدماه في الماء، والرجل التاجر الغني الذي لا يزال غائباً بأرض بعيدة فلا يستمتع بغناه.

قال الملك: إنك لأهل أن تعذّب أشد العذاب يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يعذّبوا: المجرم الذي يعاقب من لا ذنب له، والمتقدم إلى مائدة لم يدع إليها، والذي يسأل أصدقاءه ما ليس عندهم ولم يدع مسألتهم. 

قال الملك: إنه لينبغي لك أن تسفّه يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسفّهوا: النجار الذي ينزل البيت الصغير بأهله ثم لا يزال ينجر الخشب فيملأ بيته من الحطب ويصير هو وامرأته في ضيق، والطبيب الذي يعمل بالوسى ولا يحسن الاتقاء فيقطع لحوم الناس، والغريب المقيم بين ظهر عدوه ولا يريد الرجوع إلى أهله ووطنه. وإن مات في غربته أيضاَ ورثوه فيصير ماله للغرباء وينسى ذكره.

قال الملك: كان ينبغي أن تسكن حتى يذهب غضبي يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسكنوا: الذي يرقى الجبل الطويل، والذي يصيد السمك، والذي يهمّ بالعمل الجسيم.

قال الملك: ليتني قد رأيت إيراخت.

قال إيلاذ: ثلاثة يتمنون ما لا يجدون: الفاجر الذي لا ورع له ويريد إذا مات منزلة الأبرار ويرجو مثل ثوابهم، والبخيل الذي ينزل نفسه منزلة الكري، والظالمون الذي يسفكون الدماء بغير حقها ويرجون أن تكون أرواحهم مع أرواح السعداء أهل الرأفة والرحمة.

قال الملك: أنا الذي أوجعت نفسي بإيراخت.

قال إيلاذ: ثلاثة هم الذين أوجعوا أنفسهم: الذي يأتي القتال ولا يتقي فيقتل، والكثير المال الذي لا ولد له ولا أخ وتجارته في الربا والغلاء على الناس فربما حسده بعضهم فأهلكه، والشيخ الكبير يخطب المرأة الشابة فلا تزال تتمنى موته.

قال الملك: إني لحقير في عينك يا إيلاذ حين تجترئ أن تقول مثل هذه المقالة بين يدي.

قال إيلاذ: ثلاثة يحقرون أربابهم: الذي يجترئ ويهذي بالكلام ويقول ما يعلم وما لا يعلم، والمملوك الغني الذي سيده فقير فلا يعطي سيده من ماله شيئاً ولا يعينه به، والعبد الذي يغلظ لسيده في القول ويخاصمه ثم يستطيل عليه في الخصومة.

قال الملك: إنك لتسخر بي يا إيلاذ، وددت أن إيراخت لم تكن ماتت.

قال إيلاذ: ثلاثة ينبغي لهم أن يسخر منهم: الذي يقول: “قد شهدت زحوفاً كثيرة فأكثرت القتل والسبي” فلا يُرى في جسده أثر من القتال، والذي يخبر أنه عالم بالدين ناسك مجتهد وهو يعيش التنعّم والرفاهية تراه أسمن من الأثمة الفجار، فذلك ينبغي أن يخسر منه ويتهم فيما أخبر عن نفسه. فإنّ من أذاب نفسه في طاعة الله يكون مهزول الجسم قليل الطعم، والمرأة التي تسخر من ذات الزوج ولعلها أن تكون بذيّة.

قال الملك: إنك لمتجبر يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة يتجبرون: الجاهل الذي يعلّم السفيه ويقبل منه ويماريه فيصير أمره إلى ندامة، والذي يهيج السفيه ويتحرّش به متعمداً أذاه فيؤذي بذلك نفسه، والذي يفضي سره إلى من لا يختبره ويدخله في الأمر العظيم ويثق به ثقته بنفسه.

قال الملك: أنا الذي جلبت المشقة على نفسي.

قال إيلاذ: إثنان هما اللذان يجلبان المشقة على أنفسهما: الذي ينكص على عقبيه ويمشي القهقري فربما عثر فيتردى في بئر أو يقع في مهواة، والذي يقول “أن من كماة الحرب” فيغرّ غيره، فإذا حضر الناس للقتال تلفّت يميناص وشمالاً فيحتال للفرار.

قال الملك: لقد تصرّم ما بيني وبينك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة لا يلبث ودهم أن يتصرّم: الخليل الذي لا يلاقي خليله ولا يكاتبه ولا يراسله، والخل الذي يكرمه أحباؤه ولا ينزل ذلك منزلته ولا يقلبه بقبوله ولكنه يستهزئ بهم ويسخر منهم، والقاصد خلانه في النعيم والفرح وقرة العين يسألهم الأمر الذي يقدرون عليه ثم لا يثيبهم على ذلك شيئا.

قال الملك: قد عملت بقتل إيراخت عملاً يستدل به على خفة حلمك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة يعملون بجرأتهم ما تستبين به خفة أحلامهم: المستودع ماله من لا يعرف أمانته، والأبله القليل العقل الجبان الذي يخبر الناس أنه شجاع مقاتل بصير بجمع المال واتخاذ الأخلاء وبناء البنيان وهو كاذب في كل ما ذكر، والذي يزعم أنه تارك أمور الجسد مقبل على أمور الروح وهو لا يلقى إلا متابعاً لهواه تاركاً لأمر الله وتنفيذ وصيته.

قال الملك: إن ك لغير عاقل يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثلاثة لا ينبغي لهم أن يعدوا من ذوي العقل: الإسكاف الذي يجلس على المكان المرتفع فإذا تدحرج شفاره أو شيء من أداته شغله عن كثير من عمله، والخياط الذي يطيل خيطه فإذا تعقّد شغله عن كثير من عمله، والذي يقص أشعار الناس ويلتفت يميناً وشمالاً فيفسد شعورهم فيستوجب بما أذنب العقوبة.

قال الملك: كأنك تريد يا إيلاذ أن تعلم الناس كلهم حتى يمهروا مثلك فتريد أن تعلمني حتى أكون ماهراً.

قال إيلاذ: ثلاثة زعموا أهم قد مهروا وينبغي أن يتعلموا: الذي يضرب بالصنج والعود والطبل ولا يوافق المزمار وسائر الألحان، والمصور الذي يحسن خط التصاوير ولا يحسن خلط الأصباغ، والذي يزعم أنه ليس محتاجاً إلى علم شيء من الأعمال وأنه بالأعمال والصناعات كلها عالم ولا يبصر غور الكلام وكيف هو وفي أي ساعة له أن يكلم من هو فوقه ومن هو دونه.

قال الملك: لم تعمل بحق إذا قتلت إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة يعملون بغير حق: الذي لا يصدق لسانه ولا يحفظ قوله، والسريع في الأكل والبطيء في العمل وخدمة من فوقه، والذي لا يستطيع أن يسكن غضبه قبل خزي الذنب، والملك الذي يهمّ بالأمر العظيم ثم يتركه.

قال الملك: لو علمت بسنّتي لم تقتل إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة يعملون بسنة: الذي يصنع الطعام لحينه ويهيّئه فيقدمه لسيده لأوانه، والذي يرضى بامرأة واحدة ويصرف نظره عن ساء غيره ممن لا يحل له، والملك الذي يعمل الأمر العظيم بمشاورة العلماء، والرجل الذي يقهر غضبه.

قال الملك: لقد عدمت الخير يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة هم الذي عدموا الخير: المملوء جسمه ظلماً وإثماً، والخسيع المعجب بنفسه، والذي قد تعوّد السرقة، والسريع الغضب البطيء الرضا.

قال الملك: ما ينبغي لنا أن نثق بك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة لا يوثق بهم: الحية الماردة، وكل سبع مخوف من الحيوان، والأثمة الفجار، والجسد الذي قضي عليه بالموت.

قال الملك: إن ذوي الكرم من الناس لا ينبغي لهم أن يضاحكوا ولا يلاعبوا.

قال إيلاذ: أربعة لا ينبغي لهم أن يضاحكوا ولا يلاعبوا: الملك العظيم السلطان، والناسك المتعبد، والرجل الساحر الخسيع، واللئيم الخلق الشره الطبيعة.

قال الملك: ما ينبغي لنا مخالطتك يا إيلاذ بعد قتلك إيراخت.

قال إيلاذ: أربعة لا يخالط بعضهم بعضاَ: الليل والنهار، والبر والفاجر، والنور والظلمة، والخير والشر.

قال الملك: ما ينبغي لأحد أن يثق بك يا إيلاذ أبداً.

قال إيلاذ: أربعة لا يوثق بهم: اللص والكذوب والمذّاق والحقود المتسلط.

قال الملك: لم يصبني حزن كحزني على إيراخت.

قال إيلاذ: خمس من النساء ينبغي أن يحزن عليهن: الكريمة الحسب ذات الشرف العظيم، والعاقلة اللينة العالمة، والحليمة الطاهرة الجيب، والحصان الميمونة الطائر، والمؤاتية لبعلها الراضية المتحننة عليه.

قال الملك: من ردّ عليّ إيراخت حية فله عندي من المال ما أحب.

قال إيلاذ: خسمة المال أحب إليهم من أنفسهم: الذي يقاتل بالأجرة لا نية له في القتال إلا إصابة أجرته، واللص الذي ينقب البيوت ويقطع الطريق فتقطع يداه أو يقتل، والتاجر الذي يركب البحر يطلب جمع المال، وصاحب السجن الذي مُناه أن يكثر أهل سجنه ليصيب منهم، والمرتشي في الحكم.

قال الملك: قد أثبتّ في نفسي عليك حقداً بقتلك إيراخت يا إيلاذ.

قال إيلاذ: أربعة الحقد بينهم ثابت: الذئب والخروف، السنور والفأرة، البازي والدُّرّاج، والبوم والغراب.

قال الملك: ليس تأخذني سنة ولا نوم من حزني على إيراخت.

قال الملك: لقد كرهت قتل إيراخت.

قال إيلاذ: سبعة أشياء مكروهة: الشيخوخة التي تسلب الشباب البهاء، والوجع الذي ينحل الجسم وينزف الدم، والغضب الذي يفسد علم العلماء وحكم الحكماء، والهمّ الذي ينقص العقل ويسلّ الجسم، والبرد الذي يضرّ، والجوع والعطش اللذان يجهدان كلّ شيء ويخزيانه، والموت الذي يفسد جميع البشر.

قال الملك: غبنتني وغبنت نفسك يا إيلاذ.

قال إيلاذ: ثمانية يغبنون أنفسهم وغيرهم: ذو العلم القليل يتكلف أن يعلّم الناس كثيراً، والرجل العظيم ذو العقل وليس يدري فطنة، والذي يطلب ما لا يدرك ولا ينبغي له إدراكه، والبذيء الفجور الأشر العادي طوره المستغني برأيه عن مشاورة الأخلاء من أهل العقل والنصح له، وموارب الملوك والعظماء ولا حلم له ولا علم، ومطّلب العلم الذي يخاصم فيه من هو أعلم به منه ولا يقبل منه ما علّمه، ومجامل الملوك غير مانح لهم الصفاء ولا باذل للهم ودّ صدره، وملك قهرمانة وخازنه كذاب مهذار سيء الطبيعة لا يقبل الأدب من مؤدب.

ثم سكت إيلاذ وعليم أن الملك قد اشتدّ حزنه على إيراخت واشتاق إلى رؤيتها، فقال له الملك: ما بالك سكتّ يا إيلاذ.

قال: أيها الملك إني قد تطاولت عليك فيما امتحنتك به ما آل إليه أمرك في إيراخت. وأنا الآن حقيق بأن آتي الملك بهذه التي أحبها هذا الحب وحرص على رؤيتها أشد الحرص وحلم على عقوبتي مع طول تبصرتي إياه في أشياء كثيرة وتطرّفي له في القول. فإنه ليس في الأرض ملك مثلك ولا شبيه بك، ولا كان فيما مضى ولا يكون ذلك إلى آخر الأبد إذ لم يسلبك الغصب حلمك. وأنا مع رقّة شأني وصغر خطري أقول ما أقول ولكن لم تزل عليك السكينة والوقار مع سواك في العلم والحلم ولين الكنف لحب السلامة والخير مع جميع الناس. فإنك لكرم أصلك وسعة حلمك ملكت نفسك وصرت على ما سمعت مني مع صغر أمري ورقة شأني. فأشكر لك أيها الملك إذ لم تأمر بقتلي وها آنذا قائم بين يديك قد فعلت الذي فعلت لنصحي وحبي لك. فإن كانت دخلت هذه في معصية فإن لك الحجة والسلطان على عقوبتي وقتلي.

فلما سمع الملك أن إيراخت أم جوبر هي حية اشتد فرحه وقال لإيلاذ: إنه كان يمنعني من الغضب عليك ما علمت من نصيحتك وصدق حديثك. وكنت أرجو لمعرفتي بحلمك ألا تكون قتلك إيراخت. فإنها تفعل ذلك لعداوة ولا لطلب مضرّة لكنها فعلت لغيرة. وكان ينبغي لي أن أعرض عن ذلك وأحتلمه ولا أغضب لأن يعرفت أن الذنب كان لي، وإن كنت مستيقناً أنك تعلم أني لم آمرك بما أمرتك فيها من القتل إلا وأنا نادم على ما أمرتك، لكنك أردت أن تجرّب الملك أو تتركه في شكّ وخفت أن أعاقبلك إن قلت “لم أقتلها”. ومعاذ الله أن يكون ذلك رأي وأن أكون فاعلاً ذلك بك. ولكن لك حق شاكر فانطلق فأتني بإيراخت وارددها عليّ.

فخرج إيلاذ من عند الملك وأمر إيراخت أن تتزين وتلبس ثيابها ففعلت ذلك. ثم انطلق بها إلى الملك فدخلت عليه وقبّلت رأسه. فلما رآها اشتد فرحه وقال: افعلي ما أحببت فلا أصرف هواك عن شيء.

قال إيراخت: أدامالله ملككم إلى الأبد فكيف لولا رأفتكم وسعة أحلامكم تندمون على ما كان منكم في أمري هذه الندامة. فإنكم لو لم تذكروني آخر الأبد لكنت لذلك أهلاً للذي كان مني حتى أمر الملك بقتلي. وبرأفتكم شرككم إيلاذ في كفه عن قتلي. ولولا ثقة إيلاذ بسعة أحلامكم مع رأفته وعدله ووفائه لأنفذ ذلك الأمر وأهلكني.

قال الملك لإيلاذ: إنك قد اصطنعت عندي ما وجب به شكرك ولما لم يره ملك من عبيده لم يصطنع إليّ أمر أعظم عندي من أنك لم تقتل إيراخت، بل أحييتها بعد ما قتلتها أنا فوهبتها إليّ اليوم ورددتها عليّ فلم أكن قطّ أرضى عنك مني اليوم.

قال إيلاذ: أنا عبدك وحاجتي اليوم ألا تعجل بعدها في الأمر العظيم الذي يندم عليه وتكون عاقبته الهم والحزن كما رأيت، ولا سيما في أمر هذه التي لا يوجد لها في الأرض شبيه.

قال الملك: لحقنا قلت يا إيلاذ وقد قبلت قولك في كل ما أمرت به فيكف في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد مرّ بي. فإني لست عاملاً بعده صغيراً ولا كبيراً إلا بعد المؤامرة والنظر والتؤدة.

ثم إن الملك أعطى تلك الثياب إيراخت ودخل معها إلى مكان نسائه فرحاً مسروراً. ثم ائتمر بعد ذلك هو وإيلاذ في قتل أولئك البراهمة الذين أرادوا هلاك حشم الملك وأهله فقتلوا ونهبوا ونفوا من الأرض. وقرّت أعين عظماء أهل مملكته وحمد الله وأثنى عليه وشكر لكنان أبزون فضل علمه وسعة حلمه لأن بعلمه كان خلاص الملك وزوجته وولده والوزراء الصالحين الذين هم أحب الخلق إليه.

فهذا باب الحلم والعقل والأدب.

error: النسخ ليس ممكناً